كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد قدمنا أن القول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر؛ لأنها في حكم الزوجة، وذكرنا ما يظهر لنا أنه أظهر الأقوال في ذلك، وأقوال العلماء، وفائدة لعانه أن يدفع عنه حد القذف، وكون الرجعية كالزوجة قبل انقضاء العدة فيتوارثان، ولا يجوز له تزوج أختها، قبل انقضاء العدة، ولا تزويج رابعة غيرها، لأنها تكون كالخامسة نظرًا إلى أن الرجعية كالزوجة، يقتضي أن القول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر، وقد رأيت كثرة من قال به من أهل العلم، ووجه القول بعدمه أنه لما طلقها عالمًا بزناها في زعمه، دل ذلك على أنه تارك للعان، وينبني على الخلاف المذكور، ما لو ادعى أنها زنت بعد الطلاق الرجعي، وقبل انقضاء العدة، هل يحكم عليه بأنه قاذف، لأنه رماها بزنى واقع بعد الفراق أو له يلاعنها لنفي الحد عنه بناء على أن الرجعية في حكم الزوجة.
أما إن قذفها قبل أن يطلقها ثم طلقها بعد القذف، فالأظهر أن له لعانها مطلقًا، ولو كان الطلاق بائنًا، لأن القذف وقع وهي زوجة غير مطلقة، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والقاسم بن محمد، ومكحول، ومالك، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال الحارث العكلي، وجابر بن زيد، وقتادة والحكم: يجلد. وقال حماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي: لا حدّ ولا لعان، لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وليس هذان بزوجين ولا يحد، لأنه لم يقذف أجنبية.
المسألة العاشرة: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن ظهر بامرأته حمل، وهو قائل إنه ليس منه إذا سكت عن نفي ذلك الحمل حتى وضعته ثم قال إنه إنما سكت عن نفيه مدة الحمل رجاء أن يكون ريحًا أو انتفاخًا فينفش أو يسقط ميتًا، فيستريح بذلك من اللعان أنه يمكن من نفيه بلعان بعد الوضع، لأن العذر الذي أبدى وجيه جدير بالقبول، فإن بادر بنفيه فورًا عند وضعه، فلا ينبغي أن يختلف في أن ينفيه بلعان، وإن سكت عن نفيه بعد الوضع، ثم أراد أن ينفيه بعد السكوت، فهل له ذلك أو ليس له، لأن سكوته بعد الوضع يعد رضى منه بالولد، فلا يمكن من اللعان بعده.
لم أعلم في هذه المسألة نصًا من كتاب، ولا سنة. والعلماء مختلفون فيها. قال القرطبي: قد اختلف في ذلك ونحن نقول: إذا لم يكن له عذر في سكوته، حتى مضت ثلاثة أيام فهو راض به وليس له نفيه، وبهذا قال الشافعي، وقال أيضًا متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم، فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك، وقال أبو حنيفة: لا أعتبر مدة. وقال أبو يوسف، ومحمد: يعتبر فيه أربعون يومًا مدة النفاس قال ابن القصار: والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه واستلحاق ولد ليس منه، محرم عليه فلابد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه، ويفكر هل يجوز له نفيه أو لا، وإنما جعلنا الحد ثلاثة، لأنه أول حد لكثرة، وآخر حد القلة، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر فيها حال المصراة، وكذلك ينبغي أن يكون هنا.
وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهما بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع، إذ لا شاهد لهما في الشريعة، وقد ذكرنا نحن شاهدًا في الشريعة من مدة المصراة انتهى كلام القرطبي، ولا يخفى ضعف ما استدل به ابن القصار من علماء المالكية للتحديد بثلاثة.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: هذه المسألة مبنية على الاختلاف في قاعدة أصولية، وهي هل ينزل السكوت منزلة الإقرار أولى. وقد أشار إلى ذلك صاحب مراقي السعود بقوله:
وجعل من سكت مثل من أقر ** فيه خلاف بينهم قد اشتهر

فالاحتجاج بالسكوتى نمى ** تفريعه عليه من تقدما

وهو بفقد السخط والضد حرى ** مع مضي مهلة للنظر

فمن قال: إن السكوت لا يعد رضى. قال: لأن الساكت قد يسكت عن الإنكار مع أنه غير راضي، ومن قال: إنه يعد رضى، قال لأن سكوته قرينة دالة على رضاه واستأنسوا بقوله صلى الله عليه وسلم في البكر إذنها صماتها، وبعضهم يقول تخصيص البكر بذلك، يدل على أن غيرها ليس كذلك، والخلاف في هذه المسألة معروف في فروع الأئمة وأصولهم، ومن تتبع فروعهم وجدهم في بعض الصور يجعلون السكوت كالرضى كالسكوت عن اللعان زمنًا بعد العلم بموجبه، وكالسكوت عن القيام بالشفعة ونحو ذلك، ويكثر في فروع مذهب مالك جعل السكوت كالرضى.
ومن أمثلة ذلك ما قاله ابن عاصم في رجزه في أحكام القضاء في مذهب مالك:
وحاضر لواهب من ماله ** ولم يغير ما أرى من حاله

الحكم منعه القيام بانقضا ** مجلسه إذ صمته عين الرضى

ولكل واحد من القولين وجه من النظر.
والذي يظهر لنا في مسألة السكوت عن اللعان أنه إنه سكت زمنًا يغلب على الظن فيه عادة أنه لا يسكت فيه إلا راض عد رضى وإلا فلا، لأن العرف محكم والعلم عند الله تعالى.
المسألة الحادية عشرة: اعلم أنه إن كان النكاح فاسدًا، وقذفها زوجها بالزنى إن كان لنفي نسب يلحق به في ذلك النكاح الفاسد، فلا ينبغي أن يختلف في أنه يلاعن لنفي النسب عنه، وإن كان النكاح الفاسد يلحق فيه الولد ولكنه قذفها بالزنى، وأراد اللعان لنفي الحد عنه، فالأظهر أن له ذلك لأنها لما صارت يلحق به ولدها صارت في حكم الفراش. قاله مالك في المدونة، وقال القرطبي: يلاعن في النكاح الفاسد زوجيته، لأنها صارت فراشًا ويلحق النسب فيه مجرى اللعان فيه. اهـ. منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن النكاح الفاسد إن كان مجمعًا على فساده لا يلحق الولد فيه أن الزوج القاذف فيه لا يمكن من اللعان، بل يحد حد القذف إن لم يأت بأربعة شهداء، وهذا ظاهر لا يخفى والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية عشرة: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي في الذي يقذف زوجته الحامل بالزنى، ثم يأتي بأربعة شهداء على زناها: أنه له أن يلاعن لنفي الحمل مع الشهود، لأن شهادة البينة لا تفيد الزوج إلا درأ الحد عنه. أما رفع الفراش، ونفي الولد فلابد فيه من اللعان.
وقال القرطبي رحمه الله: اختلفوا أيضًا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده؟ فقال مالك والشافعي: يلاعن كان له شهود أو لم يكن، لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درإ الحد، وأما رفع الفراش ونفي الولد فلابد فيه من اللعان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما جعل اللعان إذا لم يكن له شهود غير نفسه لقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} [النور: 6] اهـ. منه.
المسألة الثالثة عشرة: قال القرطبي أيضًا في تفسيره: يفتقر اللعان إلى أربعة أشياء عدد الألفاظ، وهو أربع شهادات على ما تقدم، والمكان وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان، إن كان بمكة فبين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند المنبر وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه إن كانا يهوديين فالكنيسة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين، فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه والوقت، وذلك بعد صلاة العصر وجمع الناس، وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدًا، فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان اهـ. منه. مع أن مشهور مذهب مالك الذي هو مذهب القرطبي أنه لا ملاعنة بين كافرين وبعض ما ذكره لا يخلو من خلاف.
المسألة الرابعة عشرة: اعلم أن الزوج لا يجوز له نفي الولد بلعان، إلا بموجب يقتضي أن ذلك الولد ليس منه كأن تكون الزوجة زنت، قبل أن يمسها الزوج أصلًا، أو زنت بعد أن وضعت، ولم يمسها الزوج بعد الوضع حتى زنت أو زنت في طهر لم يمسها فيه، لأن الحيضة قبل الزنى تدل على أن الحمل من الزنى الواقع بعد الحيض، ولا يجوز له الاعتماد في نفي الحمل باللعان على شبه الولد بغيره ولا بسواد الولد كما قدمنا، ولا بعزل لأن الماء قد يسبق نزعه فتحبل منه، ولا بوطء في فخذين لأن الماء يسيل إلى الفرج فتحمل منه كما قدمنا.
المسألة الخامسة عشرة: اعلم أن كل ولدين بينهما أقل من ستة اشهر فهما توأمان، فلا يجوز نفي أحدهما، دون الآخر، فإن أقر الزوج بأحدهما لزمه قبول الآخر، والظاهر أنه إن نفى أحدهما مع اعترافه بالثاني حد لقذفه كما قاله مالك وأصحابه، ومن وافقهم.
وقد أوضحنا في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك، ويعلم منه أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر فهما توأمان.
وقال ابن قدامة في المغني: وإن ولدت امرأته توأمين وهو أن يكون بينهما دون ستة اشهر، فاستلحق أحدهما، ونفي الآخر لحقا به، لأن الحمل الواحد، لا يجوز أن يكون بعضه منه، وبعضه من غيره، فإذا ثبت نسبت احدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة، فجعلنا ما نفاه تابعًا لما استلحقه، ولم نجعل ما أقر به تابعًا لما نفاه، لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن أن يكون منه، ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطًا، ولم نقطعه عنه احتياطًا لنفيه إلى أن قال: وإن استلحق أحد التوأمين، وسكت عن الآخر لحقه، لأنه لو نفاه للحقه، فإذا سكت عنه كان أولى، ولأن امرأته متى أتت بولد لحقه ما لم ينفعه عنه بلعان، وإن نفى أحدهما، وسكت عن الآخر لحقاه جميعًا.
فإن قيل: ألا نفيتم المسكوت عنه، لأنه قد نفى أخاه، وهما حمل واحد.
قلنا: لحوق النسب مبني على التغليب، وهو يثبت لمجرد الإمكان، وإن كان لم يثبت الوطء ولا ينتفي الإمكان للنفي فافترقا فإن أتت بولد فنفاه ولا عن لنفيه، ثم ودلت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول، لأن اللعان تناول الأول وحده، ويحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان، ويحتمل أن ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى لعان ثان، لأنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة فلا يحتاج إلى لعان ثان ذكره القاضي.
اه.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: وهذا الأخير هو الأظهر، لأن الحمل الواحد لا يحتاج إلى لعانين ثم قال في المغني متصلًا بكلامه الأول: فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه، وإن سكت عن نفيه لحقاه أيضًا، فأما إن نفي الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر، فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل، ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل. فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى، ولا ينتفي بغير اللعان لأنه حمل منفرد، وإن استلحقه أو ترك نفيه لحقه، وإن كانت قد بانت باللعان، لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول. وإن لاعنها قبل وضع الأول، فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني، لأنها بانت باللعان وانقضت عدتها بوضع الأول، وكان حملها الثاني بعد انقضاء العدة في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه. ثم قال في المغني أيضًا: وإن مات أحد التوأمين فله أن يلاعن لنفي نسبهما، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة يلزمه نسب الحي، ولا يلاعن إلا لنفي الحد، لأن الميت لا يصح نفيه باللعان، فإن نسبه قد انقطع بموته، فلا حاجة إلى نفيه باللعان، كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لكون النكاح قد انقطع، وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي، لأنهما حمل واحد ولنا أن الميت ينسب إليه، ويقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه. فكان له نفي نسبه وإسقاط مؤنته كالحي، وكما لو كان للميت ولد. اهـ. كلام صاحب المغني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر أنه إن كان للولد الميت الذي يراد نفيه بعد الموت ولد كان حكمه في اللعان كحكم الحي، لأن ولده الحي لا ينتفي إلا بنفي أبيه، فله اللعان لنفي نسب الميت لينتفي عنه ولده، وهذا إن قلنا إن له أن يلاعن بعد هذه المدة الطويلة، لأنه لم ينف الولد الميت إلا بعد أن عاش عمرًا يولد له فيه، وقد يكون معذورا ًبالغيبة زمنًا طويلًا، وكذلك عند من يقول: إن سكوت لا يسقط اللعان مطلقًا كما تقدم، وكذلك إن أريد إلزامه بتكفين الولد الميت وتجهيزه فالأظهر أن له أن ينفيه عنه بلعان ليتخلص من مئونة تجهيزه وتكفينه. والظاهر أنه إن نفى ولدًا بعد موته، فإن كانت أمه حية فلابد من اللعان، لأنه قاذف أمه، وإن كانت الأم ميتة جرىعلى الخلاف في حد من قذف ميتة، فعلى القول بالحد فله اللعان، وعلى القول بعدمه فلا لعان، وقد قدمنا الخلاف في ذلك. ويعتضد ما ذكرنا بما تقدم قريبًا من أن له اللعان لنفي الولد لأنه يجتمع به موجبان للعان، وهما إسقاط الحد ونفي الولد، وبه تعلم أن الأظهر عدم النظر إلى الولد الميت هل ترك مالًا أو لا؟ والعلم عند الله تعالى.